إنَّ القول بالمصادفة
هنا لا يمكن أن يتَّسم بشيءٍ من العلميَّة، ففي أيِّ شيءٍ يمكن افتراض
المصادفة في ذلك التجمُّع الرهيب من الطاقة والمادَّة في كتلةٍ متناهيةٍ
في الصغر لا متناهيةٍ في الكثافة؟
أم فيما تلا ذلك الانفجار من إحكامٍ لا مثيل له لهذه الأجرام التي لا يستطيع بشرٌ إحصاء عددها؟!
أم في ذلك النظام العجيب الذي انتظمت به هذه المجرَّات والنجوم والكواكب دون أدنى خللٍ يُذكَر؟!
من الناحية الرياضيَّة
قدَّر “لابلاس” احتمال المصادفة في خلق الكون بنسبة واحد إلى أربعة
تريليونات، وهو لاشكَّ احتمالٌ يؤول إلى الصفر.
ونحسب أنَّ “لابلاس” لم يكن قد أدرك معطيات علوم الفلك والفيزياء في نظريَّاتها الحديثة، وإلا لأصبح هذا الاحتمال صفرا.
وحتى ندرك استبعاد هذا الاحتمال تماما، لنذكر أنَّ احتمال أن يأخذ إنسانٌ كرةً من عشر كراتٍ مكتوبٍ عليها الأعداد من 1 إلى عشرة.
احتمال أن يأخذ الكرة
المكتوب عليها 1 هو 1: 10، فإذا وضعها ثانيةً فإن احتمال أن يأخذ بعدها
الكرة المكتوب عليها اثنان -أي أن تخرج الكرتان 1، ثم 2 متتاليتين- هو 10
× 10، ثمَّ احتمال سحب الكرات 1، 2، 3 متتابعةً 1: 1000، وهكذا حتى يصبح
احتمال سحب الكرات العشرة متتابعةً 1: عشرة ملايين، هذا احتمال سحب عشر
كراتٍ متتابعة، فما هو احتمال انتظام هذا الكون بالمصادفة؟ وهو الكون
اللامتناهي والآخذ في الاتِّساع منذ خُلِق بدقَّته العجيبة وتوازنه
الفريد!!
مسألة
حدوث بداية الكون ثم انتظامه إذن بالمصادفة مستبعدةٌ عقلاً ومنطقا، ذلكم
أنَّ الأمر كما يقول الفيزيائي “إدموند ويتيكر edmund Whittaker“:
“ليس هناك ما يدعو إلى
أن نفترض أنَّ المادَّة والطاقة كانتا موجودتين قبل الانفجار العظيم،
وأنَّه حدث بينهما تفاعلٌ فجائيّ، فما الذي يميِّز تلك اللحظة عن غيرها من
اللحظات في الأزليَّة؟ والأبسط أن نفترض خَلْقاً من العدم، أي إبداع
الإرادة الإلهيَّة للكون من العدم”.
كما
يقول الفيزيائي “إدوارد مَيْلِن Edward Milne“: “أمَّا العلَّة الأولى
للكون في سباق التمدُّد فأمر إضافتها متروكٌ للقارئ، ولكنَّ الصورة التي
لدينا لا تكتمل من غير الله”.
إنَّه إذا كان الكون
بمادَّته وطاقته وزمانه ومكانه حدث في وقتٍ واحد، وكانت له بدايةً
محدَّدة، فلابدَّ أنَّ موجوداً على الدوام كان سابقاً لوجود هذا الكون،
وهو الذي أوجده؛ لأنَّه ببساطةٍ شديدةٍ إذا لم يوجد أيُّ شيءٍ قبل ذلك،
فلا شيء يمكن أن يوجد الآن، لماذا؟
لأنَّ العدم لا يخلق
وجودا، العدم لا يَنتُج عنه إلا العدم، وما دام للكون بداية، فلا مفرَّ من
القول بوجود موجودٍ سابقٍ على وجود هذا الكون وبدايته، وأنَّه كان موجوداً
على الدوام، أي ليس له بداية، ولابدَّ أنَّه غير ماديٍّ لأنَّه موجودٌ
دائما، والمادَّة لها بداية، وهي بالحتم لها نهاية”.
ثمَّ إنَّ إنكار وجود
خالقٍ وصانعٍ استلزم -كما أسلفنا- ممَّن يزعمونه تفسير كلِّ شيءٍ تفسيراً
ماديّا، الأمر الذي استلزم بالطبع إنكار العواطف والأحاسيس الوجدانيَّة من
حبٍّ وبغضٍ وتذوقٍ جماليٍّ لشيءٍ دون آخر، أو اضطرَّ هؤلاء إلى تفسير ذلك
تفسيراً ماديّا.
إنَّه من الناحية
الماديَّة لا فرق بين إنسانٍ وآخر، رجلاً كان أو امرأة، فما الذي يجعل
الإنسان يحبُّ مثلاً امرأةً بعينها دون أخرى؟ إنَّ القول بأنَّها مجرَّد
مشاعر جنسيَّةٍ مردود؛ لأنَّ هذا يستوي إزاءه كافَّة النساء، لكن
المُشاهَد في حياة البشر أنَّ الإنسان يميل دون سببٍ يُذكَر لإنسانٍ دون
آخر، بل ما الذي يفسر علاقة الأبوَّة مثلا؟ إنَّ الإنسان -كلَّ إنسان-
يشعر أنَّ حبَّه لابنه أو ابنته يختلف عن حبِّه لأيِّ طفلٍ آخر، مع أنَّ
الطفل الآخر قد يكون أكثر جمالاً وذكاءً من ابنه، فما الذي يفسِّر هذه
العلاقة؟ أتراه هذه النطفة التي نزلت من الرجل، فكم نُطَفٍ قد تنزل منه
يقظاناً أو نائما؟ وهل هذه النطفة تحمل معها علاقات حبٍّ واتصالاً
عاطفيًّا ووجدانيًّا لا سبباً ماديًّا له؟
بل إنَّ العقل نفسه
مفهومٌ غير ماديّ، ولا يمكن إدراكه بإحدى الحواس الخمس مع تسليمنا جميعاً
بوجوده وكونه وراء كلِّ ما يتَّخذه الإنسان من قراراتٍ في حياته تنفِّذها
جوارحه.
والقول بأنَّ الأفكار
عبارةٌ عن تغيُّراتٍ جزيئيَّةٍ -كما كان يقول عالم الأحياء هكسلي (وهو من
علماء القرن التاسع عشر)-، هذا القول أصبح متخلِّفا، وأثبت الفسيولوجيُّ
بعطاءاته واكتشافاته المبهرة في القرن العشرين كون هذه النظرة غير
علميَّةٍ بالمرَّة، وأنَّ النشاط الفسيولوجيَّ والكيميائيَّ للدماغ أمرٌ
ضروريٌّ للإحساس، ولكنَّه ليس هو الإحساس بعينه.
وبعد تجارب عديدةٍ على
مناطق الإحساس بالمخِّ انتهى “بنفيلد” إلى أنَّه: “ليس في قشرة الدماغ
أيَّ مكانٍ يستطيع التنبيه الكهربائيُّ فيه أن يجعل المريض يعتقد ويقرِّر
شيئاً ما، إنَّه يمكن بهذا التنبيه مثلاً على مراكز التذكُّر أن يتذكَّر
الإنسان أموراً حدثت في الماضي، ولكن لا يمكن أن يتعلَّم الإنسان القياس
المنطقيَّ أو حلَّ مسائل في الرياضيات”.
ومن المفارقات أنَّ
“بنفيلد” كان قد بدأ أبحاثه بغية إثبات أنَّ التفكير يمكن تفسيره كحركة
جزئيَّات، وأنَّ مركزه الدماغ، لكنَّه انتهى بقوله: “طوال حياتي العلميَّة
سعيت جاهداً كغيري من العلماء إلى إثبات أنَّ الدماغ يفسِّر العقل”،
وأضاف: “يبدو من المؤكَّد أنَّ تفسير العقل على أساس النشاط العصبيِّ داخل
الدماغ سيظل أمراً مستحيلاً كلَّ الاستحالة”، وأنَّه “أقرب إلى المنطق أن
نقول أنَّ العقل ربَّما كان جوهراً متميِّزاً ومختلفاً عن الجسم”.
بل
الأعجب من ذلك قوله: “يا له من أمرٍ مثيرٍ أن تكتشف أنَّ العالم يستطيع
بدوره أن يؤمن عن حقٍّ بوجود الروح”. (penfield, the mystery of the mind
p.80,85).
بل إنَّ وجود الله
سبحانه ضرورةٌ أخلاقيَّة؛ إذ القول بعكس ذلك ينتهي بنا حتماً لفلسفةٍ
عدميَّةٍ لا تعترف بقانونٍ أخلاقيّ، ذلكم أنَّ ما يحدث في عالم الإنسان من
مظالم لو لم يكن هناك إلهٌ يحاكَم الناس أمامه لتعتدل الموازين ويُقتَصُّ
من المظالم، لأصبحت الحياة عبثا، ولأصبح القانون الواجب الاتِّباع أنَّ
القوي ينبغي أن يسود ويَقْهَر، وأنَّه لا معنى لأيِّ معنىً أخلاقيٍّ أو
قِيَميّ، أو كما يقول الشاعر الجاهليّ: “ومن لا يَظْلِمِ الناسَ يُظْلَمِ”.
وهذا بالطبع ما انتهى إليه فلاسفة الإلحاد في الغرب، سيَّما “نيتشه”.
ولا أحبُّ -أخي
السائل- أن أطيل أكثر من ذلك في هذه المسألة، ولكن، ألا ترى معي أنَّ وجود
الله سبحانه ضرورةٌ عقليَّةٌ وفطريَّةٌ ومنطقيَّةٌ ووجدانيَّةٌ وأخلاقيَّة.
إذا انتقلنا إلى
النقطتين التاليتين وهي: الكلام عن صفات الخالق والصانع، والموجود الأوَّل
“أو واجب الوجود بتعبير الفلاسفة”، فإنَّنا ننتهي حتماً دون كثير جهدٍ إلى
أنَّه ليس مادَّة؛ إذ هو سبحانه الذي خلق المادَّة والطاقة كليهما –كما
أشرنا من قبل ذلك، ولو كان –حاشاه– مادَّةً لما وجد ما يميِّزه عن مادَّةٍ
أخرى؛ إذ ما الذي يجعل هذه المادَّة خالقاً وغيرها من الموادِّ مخلوقا.
كما أنَّ صفاته
معلومةٌ منظورة، تجدها في الرحمة، وفي الرزق، وفي الإنعام، وفي التفضُّل،
وفي كلِّ شيء، فكلُّ أمرٍ في الدنيا يدلُّ عليه سبحانه، ويمكنك قراء تفصيل
ذلك، في استشارةٍ سابقةٍ عنوانها:
الملحدون.. “وفي أنفسكم أفلا تبصرون”
وإذا كنَّا انتهينا قبل ذلك إلى أنَّ العدم لا يُنتِج سوى العدم، فلابدَّ إذن من أمرين لا مفرَّ منهما:
الأوَّل: أنَّه كان موجوداً قبل أن يخلق هذه المادَّة وتلك الطاقة.
الثاني: أنَّه ليس
أيًّا من هذين الشيئين -أعني المادَّة والطاقة-، فلابدَّ -إذن- من كونه
متعالياً عن الخلق، متَّصفاً بالحكمة والإرادة والتدبير، وكلِّ صفات
الجلال والكمال.
ولابدَّ من كونه كان
موجوداً ولا يزال قبل الوجود وبعده، وهذه النقطة –أخي- أعني: “مَنْ الذي
أوجد الله؟” لا يرتاب فيها إلا قليلو العلم؛ لأنَّ وجود موجودٍ أوَّل لا
مفرَّ منه، ما دمنا سلَّمنا بوجود صانع؛ إذ لو أنَّ له مُوجِدٌ وخالق، فمن
الذي أوجد ذلك الموجد، وهكذا… ننتهي إلى تسلسلٍ لا نهاية له، وهو مرفوض
عقلاً ومنطقا، أو كما يعبِّر علماؤنا “والتسلسل باطل”.
أرجو أن أكون بذلك قد
استطعت أن أجيبك، وألا أكون قد تجاوزت في كلامٍ علميٍّ أو فلسفيّ، وإذا
كان هناك من تساؤلاتٍ حول إجاباتنا فمرحباً بك في كلِّ وقتٍ متسائلاً
وطالباً للمعرفة.
زادنا الله وإياك يقينا، وصرف عنَّا جميعاً شُبَهَ الشيطان.
[/right]
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم